يحملون صليبهم ويمضون قدماً

لقد مرتْ بضعُ ساعات منذُ إقلاع طائرتي وها هي ذكرياتي تعودُ إلى عقلي وتتجمع واحدة تلو الأخرى ليقرأها قلبي. وبينما استجمعُ ذكرياتي، تتوسعُ عيناي وتبدوُ أكثرَ إصراراً لتعكسا كل ما رأيتهُ في أرمينيا. فأدركتُ بالفعل أنني أخذتُ أكثر مما قدمت، وأنَّ قضاء ذلك الشهر بعيداً عن فرنسا وعن منزلي الريفي الصغير، أعادَ لي جوهر الحياة.

 

وأعادت لي أرمينيا رغبة لقاء الناس بعدَ الجلوس لعامٍ كاملٍ خلف شاشة الحاسوب لمتابعة دروسٍ مُضجرة لا معنى لها، والإنعزال لأشهرَ طويلة في غرفةٍ صغيرةٍ مُخصصة للطلاب حيثُ انقطعتُ عن أي تواصلٍ بشري جرّاء تفشي أزمة فيروس كورونا وتسببها بوضعِ حاجزاً بيني وبين الآخرين. كما أعطتني أرمينيا رغبةً ملحة في تحسينِ حياة الأشخاص المحتاجين بحسبِ قدراتي المُتواضعة. وجعلتني أشكرُ الله على فرصة معاينة إيمان مسيحيي الشرق الحَي من خلال مرافقتهم في حياتهم اليومية.
 
أرمينيا
أنضموا إلينا في البعثات
إنَّ المُشاركة في إحدى بعثات جمعية SOS مسيحيي الشرق كانت حلماً يُراودني منذُ عامين، وكانت اقامتي في مدينة غوريس في جنوب شرق أرمينيا غنيةً أكثر مما كنت أعتقد. لذلك أعدُّ نفسي محظوظةً جداً، إذ أرسلتُ سريعاً إلى الأرياف بعدَ قضاء أسبوعٍ خانقٍ وفارغٍ للغاية في العاصمة يريفان، حيث تولدَ لدي انطباع بأنني سائحة غربية، خلافاً لحالة المتطوعة الملتزمة بالعمل التي قصدتُ هذا البلد لعيشها.
 
ومع ذلك، فقد أغرقتني زيارة المقبرة العسكرية في أجواءٍ وطنية مؤلمة وعميقة يعيشها الأرمن. فكانت آلاف الأعلام ذات الألوان الأحمر والأزرق والبرتقالي ترفرفُ مع نسيم الهواء، ومن خلفها يشمخ جبل آرارات بقمتهِ البيضاء. وقرأتُ على العديد من شاهدات القبور “1999-2020″… يا لها من صدمة، فهؤلاء الجنود قدموا أرواحهم من أجلِ وطنهم وهم بعمري، لقد غادروا منازلهم ببسالة ذاتَ صباحٍ من شهر أيلول/سبتمبر ولم يرجعوا إليها أبداً.
 

كنتُ أتأملُ القبورَ بحزنٍ ودهشةٍ أمام هذا الكمِّ من الألم. فهناك فرقٌ ملحوظ بين سكينة الأجساد الشابة الراقدة تحت التراب، وصخبِ الورود والصور وكبار السن، وهم يتلهفون لإنهاء فظائع هذه الحرب.

 

قال إيمانويل ماكرون للشباب الفرنسي “من الصعب أن نكونَ بعمرِ الـ 20 عاماً في سنة 2020″، مشيراً إلى أنهم لم يتمكنوا من الاستمتاع بحياتهم على أكمل وجه خلال ذلك العام جرّاء إغلاق أماكن الترفيه في إطار التدابير الصحية التي أتُخذت للحدِ من تفشي فيروس كورونا. لقد عشتُ شخصياً هذه الصعوبة ولكن كم بدتْ لي سخيفة في ضوءِ الحياة التي عاشها هؤلاء الجنود الشباب. نعم لقد فقدَ شُبان في العشرين من عمرهم حياتهم وكادَ آخرون أن يفقدونها في هذا البلد، حيثُ كان من الصعب أن تكون بعمر الـ 20 في سنة 2020.
 
لم أشعر بفائدتي إلا مع وصولي إلى غوريس والمشاركة بفعّالية في حياة وأنشطة البعثة، حيثُ أُسسَ جواً من التعاون والفرح مع المتطوعين الخمسة الحاضرين إنجويراند وأكسل وديودات وماري وأستريد، الذين أشكرهم على التزامهم الكبير بقضية مسيحيي الشرق.
كما حظيتُ بلقاءاتٍ مع بعض الأرمن سيبقون في ذاكرتي ما حييت. ميلانيا وكارمن وسيروب… والكثير من الأشخاص الذين تركت الحرب آثارها المؤلمة وندباتها على جباههم.
 
فأن تكون متطوعاً مع SOS مسيحيي الشرق لا يعني أداء الأنشطة فحسب، وإنما معرفة كيفية الجلوس على طاولة والإصغاء إلى قصص الناس المأساوية في أغلب الأحيان وطمأنتهم بكل ما تستطيع من كلمات أو مساعدة ملموسة.
 
“اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا.” (متى 6 / 26) يعرفُ الأرمن كيف يثقون بالله ويُسلمون حياتهم إلى العناية الإلهية فقد أدهشوني بقبولهم للصليب والألم في حياتهم. وعلموني أن أنظر إلى الصليب على نحوٍ مُختلف، فليس فيه دلالة على الألم فحسب بل على الثقة اللامحدودة بالله.
 
وهذا ما يمكنني نقلهُ إلى فرنسا حيثُ ستبدأ بعثتي الحقيقية مع هبوط الطائرة.

“يا رب، أزرعني حيثُ الظلمة لأكونَ النور، وحيث الحزن لأكون الفرح”.

 

رافاييل، متطوعة في أرمينيا.

قسم المتطوعين

إيزولت بيشو

مسؤولة قسم المتطوعين

انضموا إلى فِرقنا العاملة في البعثات