مدَّ المتطوعون يد العون إلى السيد ليفي، وهو مزارع من قرية منجيش شمالي العراق، في بستانه طوال يومٍ كاملٍ.
“اقتربت الساعة من العاشرة صباحًا، وها نحن نسيرُ تحت أشعة الشمس الحارقة باتجاه بستان أحد جيراننا الذي طلب مساعدتنا. وبمجرد وصولنا، رأينا السيد ليفي مبتسمًا على جراره الأحمر التالف بعض الشيء، كان ضجيجه عاليًا جدًا لدرجة أنه سُمِع من مسافة كيلومتر تقريبًا.
بدأنا العمل فورًا، وكانت مهمتنا اليوم تركيب نظام ريّ لمئة شجرة تفاح في بستانه. فحملنا الأنابيب والصنابير مُصغيين لشرح المزارع الماهر عن كيفية التركيب الصحيح، إذ وجب علينا أن نمد أنبوبًا مثقوبًا ومزود بصنبور عند أسفل كل شجرة تفاح، حيث تتدفق منه المياه عند حلول موجات الحر.
بدت هذه المهمة معقدة في بادئ الأمر، لأن تركيب الأنابيب والصنابير بإحكام يتطلب قوة بدنية لا يُستاهن بها، كما كان علينا قياس المسافة بين الأشجار لنحدد أماكن التركيب. وبعد أن حصلنا على التعليمات والخطوات، استهللنا التفيذ وتوزعنا بين أرتال الأشجار حتى ننجز المهمة بكفاءة.
مرت ساعتان تقريبًا، وطلب منا ليفي أن نأخذ استراحة. جلسنا تحت ظل الأشجار، وأحضر لنا طعامًا وماءً وقهوة وبعض الحلويات لتروي عطشنا وتسد جوعنا. لقد سمحت لنا هذه اللحظة أن نتعارف بشكل أعمق عليه، فاكتشفنا رجلًا طيب القلب يهتم بالآخرين.
نهض ليفي بعد فترة وجيزة، وطلب منا أن ننتظره. إلى أن عاد بعد خمس عشرة دقيقة وهو يحمل قدرًا مليئًا بالطعام. كان قد خطط من البداية أن يقدم لنا وجبة الغداء. تأثرنا كثيرًا بهذه اللفتة الكريمة.
تناولنا طبق البرياني، وهو طبق عراقي تقليدي يتكوّن من الأرز والدجاج والزبيب والفول السوداني.
وبالمقابل، أصررنا أن نساعده في ترتيب المستودع، وهناك شاهدنا براميل فارغة وأدوات زراعية وحتى أقنعة واقية من الغازات. أوضح ليفي أنها تعود لوالده منذ زمن صدام حسين، إبان مجازر الأنفال.
أمضينا ساعتين في الترتيب والتنظيف والبستنة، وشكرنا ليفي ثم عدنا إلى منزل المتطوعين، عازمين على استمرار التعاون مع هذا المزارع الاستثنائي.”
إذا ما تجرأ المرء على الابتعاد عن الأحياء السياحية في الأقصر، بعيدًا عن الأسواق البرّاقة، والمعابد الأثرية، وماكدونالدز، وعن النيل المليئ بالقوارب، وإذا تعمق داخل المدينة بعيدًا عن مظاهرها البهية، سَيَصل إلى حيّ السواقي الفقير، حيث الجدران العارية المبنية من الطوب الأحمر.
وبدت الشوارع ضيقة وهادئة، فلا يُوجد هنا شيء مميز فعلاً، لا جمال خاص، ولا عظمة تاريخية مخفية تحت ركام الزمن. وإنما واقع الفقر المؤلم، والبطالة، وغياب التعليم، انعدام الحداثة، نقص الأطباء، وندرة الأدوية.
لذا تُكافح الكنيسة لمساعدة المسيحيين القرويين قدر استطاعتها. وتساند منظمة SOS مسيحيي الشرق الأب باولو، كاهن رعية العائلة المقدسة والقديس يوسف للأقباط الكاثوليك، من خلال تمويل ترميم مبنى جديد مكوّن من خمسة طوابق.
وسيضم هذا المبنى مكاتب الخدمات الاجتماعية للكنيسة، وفصول التعليم المسيحي، وأنشطة الكشافة، والأهم من كل شيء طابقين مخصصين للعيادات الطبية.
واليوم وصلت إلى المتطوعين دعوة خاصة، تجلت في المشاركة الفعلية في أعمال البناء.
“وصلنا مبكرًا إلى ورشة العمل، وكان العمال قد بدأوا العمل، فناديْناهم من الشارع ليرموا لنا مفاتيح المدخل، المخفي خلف حظيرة حضرية. كان عبور البوابة صعبًا، إذ يحرس كبش المكان بشراسة ويهاجم كل من يقترب منه. لكن أحدنا استطاع السيطرة عليه عبر الإمساك بقرنيه، ومتطوعة أخرى ضبطت الماعز الهاربة، بينما عمل المتطوع الثالث على فتح القفل.
وأخيرًا فُتح الباب وصعدنا الطابقين المبنيين مسبقًا.
كانت الطوب مصفوفة في الطابق الأرضي بحسب الحجم والشكل. وجُمِعَت الطوب الصالحة للاستخدام في عربة يدوية، ثم رُفِعَت إلى الطابق الثالث عبر رافعة، فُرِغَت هناك، ثم أُعيدَت نزولاً بالطريقة نفسها. وفي الأعلى كان العامل الماهر يمزج الرمل بالأسمنت لبناء الجدار مُستعينًا بخيط شاقولي لضمان استقامة البناء.
بصراحة، احتجنا إلى بعض الوقت لفهم دورنا في خلية النحل هذه، لكن بعد أن وجدنا الإيقاع، سارت الأمور بانسيابية: نُخِّل الرمل، وتعبئته، وفرز الطوب، ورفع وإنزال العربات بلا هوادة.
لقد مرّ الوقت دون أن نشعر به، وأجبرنا كرم الأقباط على التوقف لشرب الشاي وأدركنا حينها فقط ما أنجزناه: خلال ثلاث ساعات، فُرزت كومتان من الطوب، وبُنِيَ جدار ونصف.
استمتعنا بالشاي مع شعور الرضا عن العمل المنجز، محاطين برفاقنا من العمال، الذين أصبحوا أصدقاء الورشةوعزمنا على العودة . متحمسين لمواصلة الجهد من أجل افتتاح هذا المركز الذي سيُغير حياة العديد من العائلات.
سُمِعَت طرقات المطرقة تتردد كأنها سمفونية حرفية حتى قبل النزول إلى الطابق السفلي، حيث يتعلم كل طالب كيف يلين الحجر بالصبر والمثابرة والدقة.
كل ذلك بااستخدام أدوات بسيطة: إزميل، ومطرقة، والكثير من الإرادة الطيبة.
لطالما أرشد الأستاذ جوني، وهو نحات ماهر، المشاركين رجالًا ونساءً، على دروب هذا الفن العريق. واضعًا كتل الحجر الجيري فوق براميل معدنية قديمة، تُستخدم كطاولات عمل مؤقتة.
ورُسِمَت الرسوم بعناية، وبدأت الرموز الدينية والزخارف النباتية تنبض بالحياة تحت الأيدي المُتفانية للمتدربين. وظهرت ملامح التركيز على الوجوه. واجتهدت شابة في تتبّع خطوط تصميمها بدقة.
قارن طالب آخر بعناية بين رسمه والنقش الذي جعل منه شكلًا بارزًا من الحجر وصنع زهرة جميلة، في حين انبثقت هناك هيئة تجريدية من غبار أبيض كثيف.
كل منحوتة تعكس نية خاصة: شعار ما، أو مفتاح، أو آلة موسيقية أو صليب.
نَحَتَ المشاركون أحجارهم ساعتين في الأسبوع، وعلى مدى قرابة شهرين، كما يُنحتُ الأمل.
يحتضن هذا المكان البسيط، بجدرانه الإسمنتية العارية والمزيّنة بصور الحرفيين، تراثًا حيًّا عمره قرون نُقِلَ من يد إلى يد، ومن قلب إلى قلب.